رحلة جبل العزيين ( الجبل الأسود )  سقف جازان

     أهلا وسهلاً بكم مع الباحث الجغرافي والرحالة حمد العسكر في رحلة الجبل الأسود

         مقدمة :

          جبل العزيين هكذا يسميه أهل المنطقة نسبة إلى قبيلة "العزيين" ويطلق عليه اسم "الجبل الأسود" بسبب غطائه النباتي الكثيف الذي يضفي عليه اللون الأسود لناظره من بعيد. كما سنلاحظ ذلك.  وفي الأجزاء الجنوبية منه يطلق عليه جبل الصهاليل نسبة إلى قبيلة "الصهاليل" التي تسكن في أقدامه الجنوبية ( هروب والمنجد ).

        الموقع :     N17.31.567  /  E42.55.362

      يقع الجبل الأسود في منطقة جازان إلى الشرق من سهل تهامة ويأخذ شكل قوس يبدأ من الشمال لينحني نحو الشرق عند أعلى قمة فيه. يحده من الشمال والشمال الغربي  منطقة الريث ( جبل القهر- وادي لجب ) ومن الجنوب ( هروب والمنجد - وبداية وادي شهدان )

           ومن جهة الشرق يحده ( جلة الموت ( ملاحظة : لا يجوز تغيير اسمها إلى جلة الحياة لأي سبب من الأسباب فدائماً المعالم والشواهد والأسماء يجب أن تبقى بأسمائها القديمة التي وضعها من سبقونا إليها. والحقيقة أنا منتقد لكل من يغير اسم معلم إلا لضرورة قصوى كمخالفة الذوق العام ... أما جلة الموت فستبقى كما هي ولا مكان لتغير اسمها.. أتمنى من كل كاتب وباحث    أن يذكر كل معلم باسمه الحقيقي .. وهذه أمانة تاريخية وعلمية ) - وأوديتها )، أما من الغرب فتحده منطقة أقدام الجبال والتي تبدأ منها أودية عدة صغيرة مثل وادي عكاس والرجفة وأوعال وغيرها ... مروراً بالحقو.

الأسود أقرب الجبال الشاهقة إلى سهل تهامة

يعم السواد الجبل بسبب الغطاء النباتي الكثيف

      مناخ الجبل وعلوه  :

           مناخه معتدل يميل إلى البرودة طوال أيام الصيف ....  وبارد في فصل الشتاء.... تسقط عليه الأمطار بغزارة في موسم الرياح الموسمية الجنوبية الغربية .... فهو يقف قوساً في وجه الرياح المحملة ببخار الماء وكذلك لشدة ارتفاعه فهو يعد أعلى جبل في تلك المنطقة حيث تصل قمته إلى حوالي 2400م فوق مستوى سطح البحر. الأمر الذي جعل الغطاء النباتي شديد الكثافة. وهو سقف جازان الذي يمكن من أعلى قمته عند صفاء الجو وخلوه من العوالق وبخار الماء مشاهدة قمم الجبال الأخرى مثل فيفا وطلان والحشر والقهر والقرعاء جنوب أبها .... وطور آل حسن وجبال الربوعة وحبس .... كما يمكن ليلاً من أعلاه إذا كان الجو صافياً ( ويكون الجو صافياً كما ينبغي لتتحقق المشاهدة العظيمة من هذه القمة التي سميتها سقف جازان بعد توقف سقوط المطر وانقلاع السحب وتوقف التيارات الصاعدة القادمة من الغرب ) عند إذن يمكنك ليلاً مشاهدة المدن التالية تتلألأ في غاية الجمال [ مدينة الدرب ، بيش ، صبيا ، جيزان ، الشقيق على البحر ، المنجد وهروب ، الحقو ، الفطيحة ، رخية ، جبل فيفا ، والعديد من القرى المتناثرة. ] كما يمكن مشاهدة الأودية ( بيش - شهدان ) نهاراً بوضوح والعديد من الروافد التي تأتي من خط تقسيم المياه من هذا الأسود.

قطاع تضاريسي يوضح جهة الغرب التي يطل عليها الجبل (لاحظ البحر الأحمر)

لاحظ كثافة بخار الماء في الجهة الغربية من الجبل

         لاشك أن كثيراً ممن صعدوا جبل القهر لفت انتباههم ذلك الجبل الواقع نحو الجنوب والذي تظهر قمته نحو الأعلى وكأنها تطل على القهر من فوق ... هناك يمكنك أن تصف هذا الجبل بعفريت الجبال.

       الغطاء النباتي والحيواني :

        سمي الجبل بالأسود لكثرة غطائه النباتي شديد الخضرة طوال العام .... والسبب يرجع إلى زيادة بخار الماء الذي تتشبع بها سفوحه الغربية وغزارة الأمطار التي تسقط على هذا الجبل ....

        ومن أهم أشجاره العرعر تلك الشجرة المعمرة الجميلة .... ونشاهدها في الصور ترتفع كثيراً عن مثيلاتها في الجبال الأخرى ....

       وجدير بالذكر هنا أن أشجار العرعر في جبل القهر الذي يقع شمال الأسود  تعرضت لإبادة جماعية فلم يبقى منها إلا جذوع خاوية رغم القرب المكاني والظرف المناخي بين هذين الجبلين ....  والسبب سنعرفه بمشيئة الله عندما أتحدث عن رحلتي الاستكشافية لجبل القهر المنيع.

      نعود ونقول هناك أشجار تنتشر مع العرعر على هذا الجبل منها الحولي ومنها المعمرة ... مثل أشجار العتم والتين الزيتي والطلح والأشنات و ... كما تنتشر فيها كثير من الأعشاب العطرية الفطرية والسراخس والمروج الحولية....

    كما تنمو أشجار القات في هذا الجبل وذلك في مزارع يقيمها سكانه الأصليون... حيث يشكل لهم أهمية خاصة.

      ويعيش في هذا الجبل العديد من الحيوانات وأهمها الذئب والذي رأيته بعيني . والكلاب البرية والحمير وطيور الشمس والفراشات وحشرات كثيرة... ويلفت النظر كثيراً رؤية الحرباء. والطيور الملونة.

لاحظ كثافة الغطاء النباتي والخضرة الشديدة

حيوانات محترمة بداية صعودالجبل ... لاحظ الأرض الجرداء قبل الصعود

تنوع الغطاء النباتي سمة واضحة جداً " نباتات عطرية"

         سكان الجبل :

      يسكن الجبل بعض من قبيلة العزيين وقبيلة الصهاليل ... ويتركز العزيين في الجهات الغربية منه بينما الصهاليل في الجهات الجنوبية منه... وهم قلة ... فالكثير منهم هجر هذا الجبل بعد وصول الخدمات إلى القرى أسفل.. ولم يبقى إلا كبار السن وأصحاب الذوق الخاص ... ويتصفون بلبسهم البدوي القديم ، وعاداتهم القديمة.. وهم مسالمون وطيبون وأهل كرم. يعملون في رعي الماعز وتربية الحيوانات والتي أهمها بعد الماعز " الأبقار" .

 

      الطريق إلى القمة مع محدثكم :

          دفعني إلى استكشاف هذا الجبل  رؤيتي له من السهل في يوم صاف وجميل ومن مسافة بعيدة ... طريق "الدرب بيش" ... رأيت سلسلة جبال نحو الشرق يشوبها اللون السماوي كأنها سور عظيم يحبس السهل بينه وبين البحر ... وتبرز من تلك السلسلة قمة عظيمة سوداء كبرج القلعة على تلك السلسلة... فجدولت تلك القمة في ذاكرتي ... حتى بدأت رحلتي لها عام 1423هـ ...

    المحاولة الأولى :

     لم يصاحبني في رحلتي الأولى أحد ... والطريق لهذا لجبل كانت وعرة جداً قبل وصول الإسفلت إليها ... وقد توجهت إلى الريث "رخية " وتبين لي أن للجبل طريقين تصعدها السيارة ... أحدهما من الشمال والآخر من الشمال الشرقي ... صعدت بسيارتي الرانجلر آن ذاك من الطريق الشمالي .. وسرت حتى نهاية الطريق الذي يلتوي عند مدرسة العزيين في منتصف الجبل ويبدأ بالنزول شرقاً ... توقفت هناك واحترت كيف أكمل الرحلة إلى الأعلى ... توجهت نحو بيت قديم يسكنه رجل " كهل " سلمت عليه ضيفني وشربت الشاي معه ... وبعد عناء تركني وأخبرني أن هنا نهاية المطاف وأني إذا أردت الوصول إلى القمة التي اسمها ( الشديد ) علي مواصلة السير على الأقدام ... وقد أستغرق أكثر من 6 ساعات حتى أصلها.. وأخبرني أن أمامي قبل الوصول إليها جرف عظيم سيضطرني إلى الرجوع أو النزول إلى 500م في منطقة تزيد وعورتها الأشجار... ونصحني بحمل سلاح معي. وتعجب من إصراري على المضي قدماً حتى عرض علي أن يرافقني، أظنه رأفت بي.

    ودعته وحملت معي ما يلزم وكلي أمل في بلوغ القمة التي أراها قريبة...   ولكن سرت على ذلك القوس "خط تقسيم المياه"  نحو الجنوب 4كم ولم يبدو لي أن القمة تقترب ... فهلكت من التعب ... وأيقنت معنى كلام الرجل. فسارعت بالرجوع قبل الغروب. ووجدته ينتظرني وفي يده بندقية عند بداية الطريق من بيته.. والذي هو آخر البيوت المسكونة نحو القمة... رحب بي وقال كنت سألحق بك لو تأخرت نصف ساعة أخرى.

    مكثت معه قليلاً ثم شكرته واستأذنته في الرحيل وكلي شوق على الرجوع والوصول إلى تلك القمة ... فما رأيته زاد في نفسي الإصرار على العودة لهذا الجبل. عدت أدراجي نواياً العودة في مرة أخرى.

       وبالفعل عدت 3 مرات وفي كل مرة لا أبلغ القمة بسبب الأمطار والتعب حتى أتى عام 1427هـ بعد 4 سنوات من المحاولة الأولى.

       المحاولة الثانية :

       بقي عفريت الجبال الأسود لا يغيب عن ذاكرتي ... حتى عام 1427هـ ... انطلقت من مدينة الدلم وفي صحبتي أخي إبراهيم وصديقي خالد ...، توجهنا نحو الجبل وفي هذه المرة وجدنا شركة المواصلات تمسح الطريق الذي يصعد الجبل إلى المدرسة مما سهل لنا صعوده.. وقد صعدنا في الليل من أجل أن نبيت عند نهاية الطريق وتبدأ رحلتنا في الصباح نحو القمة.. فيكون معنا الوقت الكافي.

     أشرقت الشمس وها نحن نسير على الأقدام وسط هذه الغابات والأشجار الجميل لا نسمع إلا أصوات الطيور ونباح الكلاب ... ولا نرى إلا الجمال الخلاب من حولنا وتارة نسير في صفاء وصحو وتارة لا نرى بعضنا البعض من الضباب وبخار الماء ... حتى أصبحنا نوقت لكل سحابة تأتينا من الغرب ونحن نسير على خط تقسيم الماء تارة في أعلاه وتارة نهبط قليلاً نحو الغرب مجبرين بسبب الأشجار...

    كلما سرنا مسافة مررنا ببيت حجري مهجور ... وما أدهشني وما زلت أتعجب منه رؤية -البعارين- في هذا المكان المرتفع ..

بعد السير 3كم نحو القمة .. القمة كما تبدو خلف الشجرة

        واصلنا الرحلة ... ولكن مع الأسف خارت قوى صاحبي وخاصة أخي إبراهيم ... حتى بدأت أسمع كلمة - بنرجع - ..  حاولت تشجيعهم، الصديق خالد معنوياته مرتفعه والمشكلة تكمن في إبراهيم الذي لا يريد المواصلة ولا يعرف طريق الرجوع.

      لا يوجد طريق مطروق للسير نسير وسط الأشجار جانب الجبل نستعين بالأغصان  ونتسلق بعض الأشجار للانتقال إلى أعلى أو أسفل ... والمشكلة أنه على خط تقسيم الماء حيث الجمل في الصورة يصعب السير أكثر من الجانب بسبب الصخور الحادة وكثرة النتؤ والقمم الصاعدة والهابطة التي تستهلك مسافة ووقتاً أكثر...

     يمر بنا أحيانا وفجأة جسور من الخشب توحي بوجود طرق قديمة ضاعت في الغطاء النباتي ...

السير عبر جانب الجبل .. لاحظ خالد يسير على الجسر الخشبي القديم إلى اليسار وإلى اليمين سفح الجبل الغربي الذي يطل على تهامة.

 نحو الجنوب الغرب نشاهد بداية تكون فروع وادي شهدان وخلفه سهل تهامة

لاحظ كثافة الأشجار التي زادت مشقة السير نحو القمة. بعد 4كم

أحياناً نقول وصلنا إلى طريق مسدود فنضطر تسلق الأشجار.

إلى اليمين خالد وإلى اليسار إبراهيم وقد أهلكهما التعب وغضبا مني

أحياناً نسير تحت الأشجار وبين الأحراش

نادراً ما نجد مكاناً مستوياً كهذا .. الذي قد يظلم النهار فيه بسبب الضباب، لاحظ ارتواء التربة وتشبعها بالمياه بعد سقوط الأمطار ..

         واصلنا السير وأتعبني خمول صاحبي ... تركتهما .. ظناً مني  سيلحقان بي ..  واصلت السير نحو القمة بمفردي ومعي جهاز الجارمن فقط بينما جميع أغراض الرحلة من طعام خفيف وماء وكاميرا تصوير بقيت معهما. وقد سجلت إحداثيات القمة والارتفاع الذي زاد على 2400م

       وصلت القمة بعد ساعتين من فراقهما وكنت متعبا وساعة وصلت القمة ارتفعت معنوياتي وزال التعب أصبحت فعلاً في سقف جازان ... فبينما كنا نرى الجهة الغربية فقط أصبحت أرى جميع الجهات من هذه القمة دون عوائق سوى الضباب الذي يزور تارة ويغيب تارة. مكثت ساعة هناك أملاً في وصولهما .. دون جدوى فعدت أدراجي  نحوهما ولم أدركهما إلا وقد عادا إلى منصف الطريق. وبذلك أنهينا هذه الرحلة.  وبإذن الله العلي القدير سأعود للقمة من أجل ألتقط  صور لها ولغاية عزيزة في نفسي أحتفظ بها.

      

في الختام تقبلوا تحياتي محدثكم الباحث الجغرافي حمد العسكر

دائماً نقول "عظمة الله تتجلى في خلقه"